نفحات رمضانيه

كتبت شيماء ابراهيم

فى معجمه الأوسط، أورد الإمام الطبرانى حديثا نبويا شريفا، يقول فيه المصطفى (صلى الله عليه وسلم): «إن لربكم فى أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرّضوا لها، فلعل أحدكم تصيبه نفحة منها فلا يشقى بعدها أبدًا». ورغم أن الشيخين السيوطى والألبانى قد ضعَّفا ذلك الحديث، إلا أن الإمام ابن القيم الجوزية، قد أجاز فى مؤلفه الماتع «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، الأخذ بالأحاديث الضعيفة، التى تحض على فضائل الأعمال، ما لم تكن موضوعة أو مكذوبة، ولا تنطوى على حكم شرعى، أو توجيه إلهى، أو شىء من العقائد، أو الصفات الإلهية، وألا يتوافر ما يدفعها، فى المسألة محل البحث، من نص قرآنى أو نبوى صريح.
ويحثنا التوجيه النبوى، الذى نحن بصدده، على اغتنام الفرص، واستباق الخيرات، والاجتهاد فى العبادات جميعها، ابتغاء مرضاة المولى عز وجل، فى أيام فضَلها، لجهة الطاعة والثواب، على ما سواها، كشهر رمضان، العشر الأول من ذى الحجة، ويوم عرفة، وليلة القدر، ويوم الجمعة. ويشير لفظ النفحات عموما إلى الرياح الطيبة، والمنح أوالمكافآت الجزيلة عن الأعمال الجليلة. أما فى الحديث، فيقصد به عطاءات الله، التى لا يعلم حدودها غيره، فبقدر عظم شأن المعطى تكون قيمة النفحة والعطية.
لعل أوجب ما يتعين على المسلم فعله عند استقباله رمضان، أن يستهله بوافر الشكر والثناء لكرم المنعم جل وعلا، أنْ منَ عليه بغزير جوده، وأمد فى أجله ليدرك رمضان هذا العام، فتلك نعمة لو يعلم الكثيرون عظيمة. فكم من مسلم تمنى بلوغها، لكن وافته منيته قبل حلول رمضان بأسابيع أو أيام، بل وربما سويعات معدودات. وإذا كان شكر هكذا نعمة يكمن فى تأدية حقها، عبر انتهاز فرصة هذا الشهر الفضيل، للتفانى فى استرضاء الخالق طمعا فى الفوز بموفور عطائه، ونيل موعوده، فينبغى على المسلم أن يوطن نفسه ليكون أهلا لتلقى الفيوضات الإلهية والعطاءات الربانية.
ومن خير ما يتزود به المرء فى هذا الشهر الكريم، قلبا سليما، عامرا بالإيمان بالله ورسوله، وزاخرا بالمودة والتسامح والحب للناس أجمعين، مع إخلاص النية لمولاه، بحيث يتعامل مع رمضان هذا العام، كما لو كان آخر عهده بالدنيا، أو أنه لن يشهد رمضانا غيره، ومن ثم يعتبره فرصة أخيرة يجدر اغتنامها رهبا من غضب الله، ورغبا فى الظفر بمغفرته ورضوانه، عبر التماس مختلف وجوه البر، وطرق شتى أبواب الطاعة.
ومن فضل الله على عباده المؤمنين، أن اختص سيد الشهور بمعين هائل ونبع فياض من النفحات، التى لم تتح لسواه. ففى حديث البخارى ومسلم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إِذا دخل رمضان فتحت أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وصفدت الشياطين». وفى حديث آخر للترمذى وابن ماجه، قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: «وَلِلَّهِ عتَقاء مِنْ النَّار، وذلكَ كل لَيْلَة، وفيه ليلة هى خير من ألف شهر، وهى ليلة القدر، حسبما ورد فى سورة «القدر».
أما عن نفحة الصوم، التى تسمو بالروح، وتطهر النفس من الآثام، وتبرئ الجسد من العلل والأسقام، فلا تقتصر الغاية من ورائها على مشاطرة الفقراء والمساكين شعورهم بالجوع توطئة للتعاطف معهم والإحسان إليهم فحسب، بقدر ما تتأتى فى تبوؤ المرء منزلة التقوى؛ حيث يقول ربنا تبارك وتعالى فى سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». وتعنى التقوى اصطلاحًا،أن يجعل العبد بينه وبين محارم الله حجابًا وحاجزًا. أو جعل النفس فى وقاية، بحيث يجدها الله حيث أمرها فى مواضع الطاعة، ويفتقدها حيث نهاها فى مواقع المعصية. أما تعريفها الجامع المانع، فقد أوجزه الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، بالقول: هى «الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل».
لقد أخبر الحق تبارك وتعالى عن فضل الصيام على لسان رسوله المجتبى فى أحاديث نبوية عديدة. ففى حديث سهلِ بن سعد، أنه صلى الله عليه وسلم قَال: «إِن فى الجنة بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ، يدْخُلُ مِنْهُ الصَّائمونَ يومَ القِيامةِ، لاَ يدخلُ مِنْه أَحدٌ غَيرهُم. فيقالُ: أَينَ الصَّائمُونَ؟ فَيقومونَ لاَ يدخلُ مِنهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فإِذا دَخَلوا أُغلِقَ فَلَم يدخلْ مِنْهُ أَحَدٌ» متفقٌ عَلَيْهِ. وفى حديث أَبى هُرَيرةَ، عنه صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبِهِ»، متفقٌ عَلَيْهِ. غير أن حدود العطاء الربانى للصائمين يوم القيامة تبقى مبهمة للعالمين. ففى الحديث القدسى، الذى رواه البخارى عن أبى هريرة،عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيما بلغ عن ربه: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به، الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى امرؤ صائم، والذى نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
فلئن كان الصوم هو العبادة الوحيدة التى تنطوى على قسط هائل من السرية والتواصل الخفى بين العبد وبارئه، بما يجسد معنى الإخلاص المطلق لله، فقد بقى أجره رهن علمه وحده تقدست أسماؤه.
ثمة عطية إلهية جليلة أخرى فى ثواب الصوم، تتمثل فى تحصينه من تسوية حسابات الخلائق بين بعضهم البعض يوم القيامة، حسبما ورد فى حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم «أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع؛ فقال: إنما المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام، وزكاة، ويأتى وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم ثم طرحت عليه، ليقذف فى النار». فمن فضل الله ورحمته بعباده الصائمين أن جعل أجر صيامهم ذخرا لهم فلا يتقاص منه أصحاب الحقوق يوم القيامة، ليبقى غير منقوص بمنأى عن تسلط الغرماء.
وفى القرآن المجيد، الذى أنزله المولى عز وجل على نبيه بليالى رمضان، تجلت أعظم المنح الربانية، وفق ما ورد فى قوله تعالى بسورة البقرة

Related posts