كتبها/ سيد علي
بناء القوة والموازنة بينها وبين السلم
تمثل الفترة التي تلت عام ٢٠١٣ منعطفاً حاسماً في التاريخ المصري الحديث، حيث شرعت الدولة في صياغة استراتيجية وجودية جديدة تهدف إلى إعادة بناء الداخل وتأمين الخارج، وتأسيس كيان دولة قوية ومؤثرة.
انبثقت هذه الاستراتيجية من رحم إدراك عميق لطبيعة التحديات الإقليمية والدولية، وقراءة واقعية لموازين القوى.
يمكن تحليل هذه الاستراتيجية من خلال محورين رئيسيين: بناء القوة الشاملة والدبلوماسية المتوازنة المدعومة بالردع.
المحور الأول: بناء القوة الشاملة – الأساس الذي تُبنى عليه السياسة
فهمت القيادة المصرية أن القوة العسكرية وحدها، دون سند من قوة اقتصادية وبشرية، هي قوة هشة. لذلك، اتسمت الاستراتيجية بالشمول، ويمكن تفصيلها كالتالي:
١. التحديث العسكري غير المسبوق: شهدت القوات المسلحة المصرية طفرة نوعية في التحديث، لا مجرد زيادة كمية. تم تنويع مصادر التسليح (روسيا، فرنسا، الصين) إلى جانب العلاقة الاستراتيجية التقليدية مع الولايات المتحدة، مما وسّع من هامش المناورة السياسي.
لم يقتصر التحديث على الأسلحة التقليدية، بل شمل إنشاء قواعد عسكرية متطورة على السواحل المصرية (مثل قاعدة برنيس)، وبناء أسطول الغواصات (تايب 209/1400)، وتعزيز القدرات السيبرانية والفضائية. الهدف من كل هذا هو بناء قدرة ردع تجعل كلفة أي عدوان محتمل على مصر باهظة إلى حد المستحيل.
٢. تعميق التصنيع العسكري والاكتفاء الذاتي: سعت مصر إلى نقل التكنولوجيا وليس مجرد شراء السلع. أصبح “جهاز مشروعات الخدمة الوطنية” التابع للقوات المسلحة لاعباً اقتصادياً رئيسياً في مشروعات البنية التحتية العملاقة والإنتاج الغذائي والصناعي. هذا لا يُحقق اكتفاءً ذاتياً في أوقات الأزمات فحسب، بل يُحول القطاع العسكري إلى داعم للاقتصاد الوطني، ويخلق قاعدة صناعية يمكن تحويلها لخدمة الأغراض الدفاعية في حالات الطوارئ.
٣. بناء الدولة من الداخل: الاقتصاد والبنية التحتية: أدركت الاستراتيجية أن الدولة القوية هي الدولة المستقرة اقتصادياً. لذلك، تم إطلاق حزمة من المشروعات القومية العملاقة (العاصمة الإدارية، محطات الطاقة، الطرق والكباري، منطقة قناة السويس). هذه المشروعات، رغم التحديات الاقتصادية التي فرضتها، تهدف إلى خلق بيئة جاذبة للاستثمار، وتوفير ملايين الوظائف، وتحديث البنية التحتية التي تُعد شريان الحياة لأي جيش حديث. القوة العسكرية لا تقف على أقدام صلبة إذا كان الاقتصاد ضعيفاً.
المحور الثاني: متى وكيف تُستخدم هذه القوة؟ فلسفة التوازن
هنا تكمن براعة الاستراتيجية المصرية: في كيفية استخدام هذه القوة المتنامية.
لم تتبع مصر سياسة خارجية عدوانية أو توسعية، بل اعتمدت على دبلوماسية ذكية مدعومة بالردع.
· متى تُستخدم القوة العسكرية؟ حددت الاستراتيجية المصرية معايير واضحة لاستخدام القوة، يمكن تلخيصها في:
· الدفاع عن حدود الدولة المباشرة: كما حدث في عمليات مكافحة الإرهاب في سيناء، والتي كانت حرباً وجودية ضد تنظيمات إرهابية تهدد أمن الوطن وسلامة مواطنيه.
· حماية الأمن القومي خارج الحدود: عندما تهدد التطورات في دول مجاورة (مثل ليبيا) الأمن المصري، تتحرك الدبلوماسية أولاً، ولكن مع وجود خيار عسكري واضح على الطاولة يمنع أي طرف من استغلال الفوضى على حدود مصر.
· الحفاظ على المصالح الحيوية: مثل أمن وممرات الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس، وهو ما يفسر الوجود العسكري المصري المتنامي على السواحل والمشاركة في التحالفات البحرية.
· متى تجنح إلى السلم والدبلوماسية؟ إدراكاً لأن الحروب المباشرة مكلفة وتعيق مسيرة البناء الداخلي، فإن مصر تلجأ إلى السلم والدبلوماسية كخيار أول وأساسي:
· وساطات إقليمية نشطة: لعبت مصر دوراً محورياً في محاولات التهدئة بين الفصائل الفلسطينية، وفي الأزمة الليبية، مستخدمة نفوذها وعلاقاتها مع جميع الأطراف.
· توازن العلاقات الدولية: تحرص مصر على عدم الانحياز الكامل لأي قطب دولي، محافظة على علاقات إستراتيجية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعلاقات قوية مع روسيا والصين. هذا التوازن يمنحها هامشاً للدبلوماسية ويحميها من ضغوط العقوبات أو القيود الأحادية.
· تحالفات أمنية غير تصادمية: الانضمام إلى تحالفات مثل “القيادة المشتركة للقوات المشتركة للتحالف الإسلامي” أو المشاركة في مناورات عسكرية مشتركة مع دول متنوعة (اليونان، قبرص، فرنسا، السعودية). هذه المشاركات ليست تحالفات حرب، بل هي أدوات لتعزيز التعاون الأمني وتبادل الخبرات وإرسال رسائل طمأنة أو ردع حسب السياق.
الخلاصة: استراتيجية الردع والبناء
الاستراتيجية المصرية في عهد السيسي هي استراتيجية واقعية بامتياز لا تخطئ مسارها و تعلم أن العالم يحترم الأقوياء، لكنها تدرك أيضاً أن القوة الحقيقية هي التي تمكن الدولة من حماية مصالحها دون الدخول في صراعات مهلكة.
لذلك، يتم بناء القوة العسكرية والاقتصادية ليس لخوض الحروب، بل لمنعها.
إنها قوة تهدف إلى خلق واقع إقليمي تكون فيه مصر شريكاً لا يمكن تجاوزه، وخصماً لا يمكن هزيمته، وقوة استقرار رئيسية في منطقة مضطربة.
النجاح في هذه المعادلة الصعبة – بناء قوة رادعة مع الحفاظ على الاستقرار الداخلي وممارسة دبلوماسية فعالة – هو التحدي الأكبر، وهو ما ستحدد نتيجته مكانة مصر المستقبلية على الخريطة الجيوسياسية للقرن الحادي والعشرين.
خطوات سابقت الزمن أتخذها الرئيس،لم يكن الكثيرين مُدركين لما بين سطورها.
دمتم بخير
سيد علي
مساعد أمين عام القاهرة لشئون المهنيين
حزب حُماة الوطن