عدالة السيدة كورونا والمصير المجهول…

الكاتب يونس السلطاني(تونس)
تونس /متابعة ايمان المليتي

شهد التاريخ البشري على امتداد العصور ظواهر عديدة ومتنوعة فتكت بالإنسانية. ظواهر راوحت بين الحروب والمجاعة وانتشار الفيروسات، فلا يكاد العالم البشري ينتهي من إحدى الظواهر القاتلة حتى يصاب من جديد بنوع آخر من هذه الآفات، فليس الحروب كما يبدو انطباعا لدى عموم الناس أنها هي الأكثر قتلا للإنسان، فهناك جراثيم ومجاعات وأوبئة متنوعة أودت بحياة البشرية أضعاف ما نتج عن الحروب والنزاعات المسلحة من موتى. ويشكل فيروس كوفيد 19 الذي ظهرت نواته الأولى منذ نهاية ديسمبر 2019 في مدينة يوهان الصينية وانتشر بأسرع وقت في أرجاء المعمورة، يشكل مناسبة للوقوف على ما يرافق مثل هذه الجوائج من هلع وخوف في صفوف الناس بالنظر إلى خطورة وسرعة تفشي هذا الوباء الذي حصد إلى حد هذا التاريخ ما يزيد عن ثلاثمائة ألف شخص وناهز عدد المصابين به خمسة ملايين في مختلف دول العالم.
بالرجوع إلى مختلف الأوبئة التي اجتاحت العالم أو جزء منه نجد إلى جانب المجاعة تلك الناتجة عن ضعف الإنتاج وانعدام العدالة الاجتماعية والاقتصادية والحروب وتغيرات المناخ، نجد الكوليرا والدبلي والإنفلونزا الاسبانية فالآسوية والإيدز وإنفلونزا الطيور فالخنازير والإيبولا ومرض السلّ.. وهي أوبئة حصدت على تباين فتراتها التاريخية وتفاوت رقعها الجغرافية ملايين الأرواح بل إنّ بعضها ما يزال منتشرا في بعض الدول الأكثر فقرا ومن ذلك السلّ والملاريا.وما يميز فيروس كورونا المستجد هو انتشاره السريع في كل بقاع الأرض إذ لم تسلم من تفشيه أي دولة تقريبا وقد تسبب في انهيار أعتى اقتصاديات العالم. فمن سمات هذا الوباء أنّه لم يفرق عندما “عزم” على الانتشار والسفر إلى مختلف القارات بين دول غنية وأخرى فقيرة. لم يميز بين الحكام والشعوب، فكم من رئيس وزراء أو شخصية عامة أصابها هذا الداء وفرض على الأغنياء كما الفقراء العزلة وقيّد تحركاتهم وحجّر أعمالهم ومنع التسوق والسفر والزيارات على الجميع. هذا الوباء تندّر وسخر من عدالته أولئك الذين طالما شعروا بالغبن والحقد الطبقي تجاه الأغنياء. فعدالة هذا الفيروس بين الناس والمجتمعات لم تقدر على تحقيقها كل الحروب وكل أسباب القتل. وباء فريد من نوعه لم يفرّق بين العالم والجاهل، عطّل المصانع والمدارس وكل أنشطة دور السينما والنوادي الرياضية والمقاهي والمنتجعات السياحية ودور العبادة على غرار كبرى الكنائس العالمية والحج إلى مكة. فكل مرافق الحياة توقف نشاطها بشكل كلي ولم تعد الحياة تطاق وسط إجراءات الحجر الصحي الطوعي والإجباري.
فقد أجبرت الكورونا النّاس في العالم على ملازمة منازلهم درءا للإصابة به، فانقلبت الحياة اليوميّة رأسا على عقب حيث أصبح المواطن يغادر بيته للضرورة وهو يتحسس إصابته بين الناس في أي الأوقات وشتى الأماكن. فالواحد منا يخرج، والحديث على الأقل عند بداية انتشار الوباء، وهو متأبط لعدد من التهيؤات و “الهلاوس” بحمل التابوت والكفن. لا يدري أي منّا إن كانت العودة إلى البيوت ستكون آمنة وسالمة أم أن عدوى الوباء قد تصيبنا. سيصاب الفرد ويكون قدره الهلاك ويدفن دون حضور أحبته وفي مقبرة لم يتخيل يوما أنه سيزورها فما بلك بأن يقبر بها.
تألم الكثير من النّاس لعدم حضور جنازات ذويهم ورفعهم على الأكتاف توديعا لأرواحهم، وكل ذلك بسبب هذا الوباء اللعين، فقد حرمنا أيضا من واجب عيادة بعض مرضانا من الأهل والأصدقاء للاطمئنان على صحتهم وكم خلّف ذلك من غصّة في صدورنا. وقد عمّ الخوف والهلع وحرم الناس من اللقاءات وانقطعت المصافحات بينهم، فلا أيادينا تعانق أيادي الزملاء والأقارب ولا صدورنا تضم إليها صدور الأعزة ولا أفواهنا تلامس وجنات الأحبّة.. انقطع الوصل بين الأحفاد والأجداد وبين الفرد ومحيطه.
وإذا ما استثنيا تغير سلوك المواطن بإعادة الاعتبار إلى أهمية مفهوم النظافة وضرورة التخلص من الأوساخ من حيث اتباع مجموعة النصائح الإشهارية وتحويلها إلى ممارسات يومية حفاظا على صحته. وإذا ما استثنيا ما لمسناه من ظواهر تضامن الناس فرادى وجماعات وتآزرهم خلال ذروة محنة الوباء، فإن وباء الكورونا قد عرّى القناع الحاجب لعمق القاع الذي تتخبط فيه الإنسانية خاصة في الدول النامية اعتبارا لجشع وفساد الطبقة الحاكمة فيها. فقد ظهر خراب المستشفيات في هذه البلدان وسراب مخططاتها التنموية، فلم تول للذات البشرية اهتماما بالحق في الصحة كما في التعليم.. تعاظم شأن أثرياء الفساد خلال هذه الجائحة فعم الاحتكار للمواد الاستهلاكية وارتفعت أسعار وسائل الوقاية كالقفازات والكمامات واحتجبت عديد الأدوية بل ان بعضها لم يعد مطابقا للمعايير ويكاد يباع خلسة بأسعار مشطة.
هذا الوضع الجديد أربك جميع الناس وزاد في هلعهم وخوفهم من المصير المجهول الذي سيخلفه هذا الوباء الفتّاك. وضع باتت تتحكم فيه كبرى الشركات العالمية المتنافسة على إجراء الاختبارات السريرية بهدف الوصول إلى العلاج في أقرب وقت ممكن. والملاحظ أن هذا التنافس بدأ يشتد في الآونة الأخيرة وهو ما ينبئ بتصادم محتمل بين الدول العظمى من أجل فرض أسعار الأدوية العلاجية الشافية من هذا الوباء ومستلزمات الوقاية منه.
والخشية كل الخشية أن تكون نتائج هذه الاختبارات وخيمة على الدول الفقيرة التي ستعجز حتما عن دفع الأثمان الأدوية المزعومة وهو ما سيزيد من تعميق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين سكان المعمورة ، ومن ثمّ سيزداد المواطن البسيط فقرا وتمتلئ في المقابل جيوب أغنياء الأزمات.. ويبقى استقراء ما ستؤول إليه أوضاع كورونا الوبائي رهين المسؤولية الملقاة على عاتق زعماء العالم وأرباب الشركات الصناعية العابرة للقارات من حيث الحفاظ على أخلاقيات العلاقات الدولية وإنقاذ أرواح البشر على اختلاف وضعهم الاجتماعي أو الاقتصادي أو عرقهم أو جنسهم أو دينهم. ولك الخيار إمّا أن تكون إنسانا فتغنم ،وإمّا أن تواصل في غيّك فتذهب ريحك أيّها الإنسان الذي أعطتك السيدة “ك” فرصة الانتماء إليك.
الكاتب يونس السلطاني(تونس)

Related posts