يحي خليفه يكتب
هل الألم خصم الزمن؟
بقدر ما الأمل حميم الزمن، بقدر ما الألم خصم الزمن، بدليل أننا لا نستثقل الإحساس بالزمن إلّا في حضور البليّة، في حين نشكو من سرعة انقضاء الأيام بهيمنة السلم، وعموم البحبوحة. فالرخاء أفيون الزمن، وليس الترف الذي لا يكتفي بأن يلغي فينا الإحساس بالزمن وحسب، ولكنه يفترس فينا الإحساس بالوجود برمّته.
وفي حال إنسان مثلي، أُبتُلي بحساسية مفرطة في العلاقة مع هذا اللغز الذي استعرنا له في معاجمنا اسم الزمن، فإن الإحساس به كان في حياتي هاجساً لجوجاً دوماً: لا أطيق حضوره، فأشكو وطأته، ولا أحتمل غيابه، فأتحسّر على فراره، مثلي في ذلك مثل كل المستنفرين، الموسوسين، الذين يستنكرون أن يلعب الزمن في المهزلة الأرضيّة دوراً دنيوياً، لأن ما يليق به هو موقف الحياد، الذي يشاهد فيه اللعبة من وراء حجاب، تاركاً خشبة المسرح للظلال التي تكتم بنشاطها أنفاس الارض، في حمّي استثمار حضورها على الأرض.
ولكن هيهات! لأن الحضور في حضرة الأرض، إنّما هو رهين حضور حضرة الزمن في مجال الأرض. ولذا فالعلاقة مع الزمن، قدرٌ لا يبيح له الوقوف موقف المتفرّج على ملهاتنا البشرية، لأنه هو المخوّل بلعب دور البطولة في فصولها: فصولٌ الأرض لها مجرد ساحة، خشبة، موضع، نصّبته الفلسفات، في المعادلة، مكاناً، ليغدو هذا المكان شريكاً ثانياً في صفقة وجودٍ، يبقى برغم كل هذا التدبير، فانياً بطبيعته.
وأحسب أنه لم يخطئ أيضاً، لأن التسلية هنا سوف تلبّي نداء أفلاطون، المترجم في وصيّته عن وجوب أن يحيا الإنسان دنياه لاهياً. وأن يحيا لاهياً بالطبع لا يعني أن يحيا مستهتراً، كما قد يتوهّم البعض، ولكن أن نعمل ما من شأنه أن يحوّل عملنا، الذي وُجدنا من أجله، ضرباً من لهو، لكي نحتال على طبيعتنا المهووسة بكل ما هو لعبٌ، كي تروم العمل، كي تروّض نفسها على العمل، لا بوصفه نشاطاً دنيوياً نجني من ورائه قُوْتاً، ولكن العمل هنا في بُعدٍ أبعد منالاً، وهو الإحساس بأداء دَيْنٍ مقدّس، اعتدنا أن نسمّيه: الواجب!
فعندما يستعير العمل هوية الواجب، نربّي أنفسنا على اعتناق هذا الواجب في ممارستنا ديناً، لا يختلف عن ممارستنا للشعائر اليومية، لا يتغلغل في وجداننا كعبادة، ما لم يكن مشفوعاً بنفحة لعب!
دمج العمل، بنزعة اللهو، في تتويج الواجب، على عرش وجود نعلم كم هو هشّ، هشّ بسبب قناعتنا بسليقته الفانية، هو ما يحقق قطب أحلامنا، وهو: السعادة!