المياه تستطيع أن تحمل السفينة وتستطيع أن تقلبها، وهكذا تفكيرك يمكن أن يصل بك إلى أعلى المراتب ويمكن أن يكون سبباً في ضياعك وغرقك إن كان متشائما، ولم ينل الإنسان قدرًا من تكريمه وتبجيله واحترامه قدر ما ناله بسبب ذلك العضو المختبئ تحت عظم جمجمته والذي يعمل كموجه روحي ومرشد فلسفي وبوصلة تشير إلى الصواب.
الإنسان ضعيف كما يردد الناس في خطاباتهم الشعبية وهم محقون. فهو لا يملك نابًا حادًا كالأسود ولا ظفرًا جارحًا كالنسور لكنه يملك جهاز عقليًا يكسر به مخلب الكواسر ويقتلع به أنياب الحوايا والأفاعي. هذا هو النصر الحقيقي للعقل البشري وهذا هو الاعجاز في تفوق بضع جرامات من الحزم العصبية على أرطال من الكائنات الحيّة المحيطة به الوجلة من مكره.
والعقل لم يحقق انتصارًا يتيمًا لصاحبه في ميدان الحيل والدفاع عن حياته فحسب، بل تعدى ذلك ليسجل بذات القدر والقدرة انتصارات متعددة في إسعاد صاحبه وتدبير شؤونه وتوسيع دائرة فهمه لما حوله والتخطيط لمستقبله والتعاطي مع التحديات التي تعصف به والجدل مع الفرقاء والنصيحة للأصدقاء فاستحق بجدارة أن يكون المقصود والمعني بقول الحق “إنما يتذكر أولو الألباب” .
وحين تأتي نداءات البعض لإلغاء العقل فإن السؤال الكبير والآني ” ومن يطيق ما يطيقه العقل؟” .. هل العواطف المتأرجحة هي البديل ؟ هل البطش الظالم هو البديل ؟ هل السذاجة المفرطة هي البديل ؟ هل الانتظار والرضى بما يكون هو البديل؟ لتعود الإجابات بالنفي مؤكدة ألا بديل للعقل سوى العقل ولا سلطان على العقل سوى العقل كما فهم ذلك المعرّي قبل عدة قرون.
إن احترام العقل كونه سلطان الجسد لا يعني بحال أنه بمنأى عن النقد ، ولا بمعزل عن الجدل والمناقشة فنقد كل شيء يزيده حسنًا ، ولو كان العقل يملك حصانة مستدامة لما دعي الإنسان في أكثر من موقف ديني وثقافي وفلسفي وشعبوي لإعادة النظر في الأمور ، والتأكد من رجاحة القرار ورزانة التوجه ولكن من دعا لكل هذه المراجعات وضع شرطًا معياريّا وهو إعادة مخرجات العقل للعقل نفسه لا لغيره ، وتكرير الفكر بالفكر ذاته لنصل في المحصلة لنتائج ثم إعادة تكريرها في ذات الآلة طلبًا لحياة أكثر جمالًا وأوفر حظًّا وأقل خيبة.