بقلم الكاتب سعيد بن خليفة
تونس/متابعة ايمان المليتي
لحظة واحدة كفيلة بأن تقلب حياتنا رأسا على عقب ولن نعود بعدها كما كنّا أبدا .
الحياة لحظة ، الآن نحن هنا وغدا وربّما بعد قليل قد نكون في مكان أجمل . قد نعيش حياة كاملة ليس فيها روح ، مجرّد جسد فاني يمشي بين النّيام . يبتسم ويرقص ويعانق ولكنّه مجرّد إثبات حضور كباقي البشر . وفي لحظة شكّ في الوجود وكلّ موجود ، عندما تكثر الأسئلة ولا تكون هناك أجوبة ، عندما تتعب من كيف ولماذا وإلى متى ؟ وتدخل في محراب الصّمت فتتنزّل عليك الإلهامات والبشائر السّماويّة . وفي لحظة تكتشف أنّ كلّ ما سبق ليس بحياة وإنّما الآن وبصوت عال تخبر قلبك بأن : بدأت قصّتي حكايتي أنا ، فأهلا بالحياة .
عندما تعيش عمرك كلّه تخشى النّاس وكلام النّاس وانتقاداتهم وحكمهم ، فتصل لمرحلة أن تختنق روحك ولا يعد بإمكانك حتّى التّنفّس . عندما تعيش بناء على عادات ومعتقدات فقط لتكون الإبن المُطيع والصّديق المثالي والأخ الجيّد . في نهاية اليوم ، تجد نفسك وحدك ، لا أحد معك غير حزنك وغربتك . وفي لحظة تقرّر أن تخلع عنك رداء المُطيع وتخرج للشّارع وتخبر الحياة بأنّك لن تعيش على مرادهم مرّة أخرى ، الآن بدأت قصّتي وحكايتي أنا ، فأهلا بالحياة .
عندما أخبروك والديك منذ الصّغر بأن تبتعد عن الخطايا واحذر مخالطة أصحاب السّوء وإيّاك أن تغضب أمّك لأنّ الجنّة تحت أقدامها وإلاّ فسيعاقبك الله أشدّ عقاب . عندما اخترت أن تدرس المجال الّذي اختارته أمّك وتتزوّج الفتاة الّتي اختارتها أمّك . عندما تٌغضب زوجتك فقط لأنّ أمّك نقلت لك كلاما لا أساس له من الصّحّة عنها . عندما تكتشف أنّك عشت عمرا كاملا تُرضي أمّك الّتي خلقها ربّك وخلقك أيضا وتولّى أمر أمّك وتولاّك أيضا ، على حسابك أنت بحجّة أنّ الجنّة تحت أقدامها وأيقنت بعدها أنّك قضيت حياتك كلّها تُرضي أمّك وليس ربّك ، فحرمت نفسك من أن تكون أنت واخترت إرادتك العمياء أن تكون عبدا لغير الله . وفي لحظة تقرّر أن تُنهي هذه المهزلة ولأوّل مرّة تفتح ذراعيك للسّماء وتقول بصوت عالي : الآن بدأت قصّتي وحكايتي أنا ، فأهلا بالحياة .
عندما عاش حياته مستهترا غير مبال بشيء ، جاهلا لكلّ شيء . لا قيمة عنده لجسده ولا لمن هم حوله . عندما أخبره والده : يا بنيّ سق على رسلك هداك الله ، فضحك وخرج من المنزل راقصا . دخل سيّارته وفتح مشغّل الموسيقى بصوت عالي وكلّما ازداد الرّيتم كلّما أسرع أكثر . ثمّ لم يستطع السّيطرة على نفسه عندما أعترضته شاحنة واصطدمت به . بالتّأكيد لقد أغمي عليه الآن أو ربّما لقد رحل لمكان أجمل . اوووه الحمد لله لا يزال حيّا ولكن بعد ماذا ، بعد أن فقد بصره . وفي لحظة ، تمنّى لو يعود به الزّمن قليلا ليرى ملامح أبيه عندما أخبره بأن يحذر الطّريق ليخبره بحاضر بابا . تمنّى لو يتمكّن أن ينظر للسّماء وناطحات السّحاب كما لم يفعل من قبل ليخبر الله بأنّ الآن سأعيش على مرادك ربّي . الآن بدأت قصّتي وحكايتي أنا ، فشكرا ربّي .
وأمّا تلك الفتاة الغريبة ، لقد عاشت قويّة جدّا . هكذا هي تبدو دائما ، ولكن في الحقيقة ، كانت خائفة جدّا . تخشى الحياة رغم تمسّكها بها . تضحك دائما والكلّ يحبّ وجودها ، كيف لا وهي مرحة جدّا وابتسامتها الجميلة لا تفارقها . ولكن عيناها تخبر كلّ غريب مثلها أنّ سرّها الدّفين قد جرّح روحها الدّرويشيّة .
عاشت مختبئة أو بالأحرى لقد نجحت في إخفاء حزنها النّبويّ . إلى أن بعث الله لها بروح متمرّدة تبحث عن طينتها المباركة . ولكن خطأ هذه الرّوح أنّها كشفت سرّ هذه الفتاة . فلم تقبل تلك الغريبة هذه الهديّة الرّبّانيّة خوفا من التّعرّي أمام شخص آخر وخوفا من الرّفض وخوفا من جرح روح يحبّها الله . وفي لحظة ، تمنّت لو أنّها لم ترفض هديّة الرّحمن . تمنّت لو كان بمقدورها العودة للوراء قليلا لتصرخ بأعلى صوتها : شكرا إلهي وأهلا بالحبّ النّقيّ الصّافي . الآن بدأت قصّتي وحكايتي أنا ، أهلا بالحياة الّتي لا تشبه إلاّ روحنا .
وأمّا عن ذاك الفتى ، لقد اعتاد ترك كلّ شيء خلفه والذّهاب كلّ يوم للمقهى . كان يجلس بجانب النّافذة الزّجاجيّة ، يضع سمّاعاته وينظر للخارج . يتأمّل كلّ شيء حوله . يشاهد المارّة ولا يركّز إلاّ مع العاشقين والأطفال الصّغار لإيمانه بأنّ هؤلاء فقط هم من يقدّمون تفسيرا حيّ وبسيط عن الحياة . في الحقيقة إنّه كثير الإستماع لأغاني الحبّ والعشق المجنون . كان دائما يشعر بأنّه مغرم ولكن هكذا بدون حبيبة . مع العلم أنّه لم يعرف الحبّ أبدا ، أقصد لم يعش قصّة حبّ . وحتّى عائلته كانت تقليديّة جدّا . لا تؤمن بقصص الحبّ الأسطوريّة . ولكنّه لم يكن مثلهم ولم يخضع لقوانينهم البائسة . بالعكس تماما ، إيمانه القويّ بالحبّ القويّ كان أقوى من أيّ شيء آخر في الحياة .
يوم بعد يوم ، كان يذهب كلّ مساء للمقهى يجلس وحيدا يبحث عن شيء ما . ولكن لا أحد يعرف غيره . ينهي قهوته . ينهض بهدوء ويتمشّى ببطئ ، مبتسما ، متفائلا بشيء ما غير عاديّ إلى أن يصل لمنزله .
وفي يوم بينما كان يستمع لموسيقته الصّاخبة ، وقعت عيناه بعيني فتاة أشبه بالملائكة . لم ينطق بحرف واحد ليس لأنّه لا يُجيد الكلام وإنّما لأنّه أخبرها بكلّ شيء بدون كلم . يبدو أنّها هي من كان يبحث عنها . لم يعد يشعر بالنغمات الّتي في أذنه لأنّ هناك موسيقى من نوع آخر ، من عالم آخر تُحدث بداخله رقصة عشق سماويّة خارج الزّمان والمكان . قال لها مرحبا وهي بدورها قالت مرحبا . أخبرها أنّها استثنائية . ابتسمت وواصلت طريقها بهدوء . وفي لحظة فتح ذراعيه وبدأ بالرّقص كما لو أنّ لا أحد يراه . ثمّ قال : لطالما آمنت بالحبّ الكبير . وها أنت اليوم ربّي تكرم قلبي بعشق كبير داخل عينين ضيّقتان ولكنّهما كافيان . الآن بدأت قصّتي وحكايتي أنا ، أهلا بالحياة الّتي تشبه روحي …….
لحظة واحدة قد تغيّر كلّ شيء إلى الأبد . والآن هي أجمل لحظة على الإطلاق وهي أعظم هديّة من الله لك لتشكر ولتحبّ ولتتنفّس الحياة كما لم تفعل من قبل . لا تعوّلوا كثيرا على الغد المجهول . الآن وهنا سرّ من أسرار عوالم صغيرة داخل عالم كبير . الآن وهنا أنت مولود جديد مُبارك من قبل..