صفحة من مذكراتي

كتب : محمــد الـقـنـور : صفحة من مذكراتي :
:
عندما أكون قادراً على رؤية الأشياء كما هي، بوضوح شديد، وببصر جلي، وأنا أتجول في المدينة، تنتعش أفراحي لمشاهد ولذكريات ، كما تكبر مأساتي ويعتريني حزن شفيف هادئ يسري في خلجات قلبي مثل السم الزعاف،ويغلف ضميري ، ويسكن عمق أعماق دورتي الدموية، فأجدني معرّضاً أكثر من سواي للجنون.
:
فقد صرت أؤمن من قرارة قلبي أن البصيرة النافذة شر و وبالٌ على صاحبها إذا كان من هواة التصفيق لما له معنى ولما ليس له ولو جزيئة مجهرية من المعنى، لأنه محاصر ويعرف أنه محكوم عليه داخل مدينته بملايين العوائق والأحكام المسبقة والترهات الملفقة التي تمنع ملكاته من الانطلاق كي يتمكّن من إبداع مساهم إتجاه العالم وفق رؤاه الشفيفة،وتطلعاته البسيطة خصوصا وأن العالم بات محاصراً بالحيتان الجديدة .
ولطالما كنتُ أخرج إلى الشارع في الصباح أو في العشية، فأنسى أن أقفل على عقلي في دولاب قبل أن أخرج، لأنني أعرفُ أنه إذا خرجتُ به قد أجازف في أن أفقده من خلال احتكاكي بالعالم الخارجي الموحل، بأبواق السيارات والشتائم والتزلفات والإدعاءات والنفاق والصراعات المجانية والأخرى المدفوعة الأجر ، وركل القيم على حساب المصالح الذاتية .
تلال القمامة المشرئبة من حاويات الأزبال ، تنبئني عن كمية الطعام الذي ظلّ أصحابه يُعلَفونه من الصباح حتى آخر الليل، كي يتمكّنوا من زيادة ثقلهم في الحياة ، وثباتهم على الكراسي، وكي يسود نومهم الشخير المرتفع خوفاً من أن يحلموا بالجدية، بعدما أصبح ممكناً، بفضل التقنيات الحديثة، كشفُ حتى الأحلام.
كنت قد إستيقظت على الساعة السابعة إلا ربع، على رنين هاتفي النقال، فوجدتُ أم الغيث إبنتي وقد طبعت قبلةً على جبيني، لتخبرني أن الهاتف رن مرتين ، وأني لم أسمعه، كان صديقي الحسين ، ذاكـ المزارع الطيب يخبرني أنه يعتزم القدوم لمراكش، وأن الثلج في دواره بدأ ينحصر عن التلال المحادية لمنزله، ويذوب من فوق سقوف تلكـ المنازل الحجرية، و أنه إنشغل خلال أيام الصقيع في زراعة الثوم، وقد حددتُ معه موعدا لرؤية طبيب صديق مشترك بيننا، لأمر صحي يخص أحد أرحامه .
:
دأبت “أم الغيث” إبنتي الصغيرة على الاستيقاظ باكرا مثل زوجتي مريمة والدتها، ربما لتختصر من وقت التدابير المنزلية، في حين واظبت على قضاء أغلب الليل في مطالعة ما أجده من كتب قرب مضجعي، والإستمتاع بما يتقاسمه الأصدقاء والصديقات من أفكار وخواطر ، ومن صور و أشرطة ومن ذكريات ومعلومات على صفحاتهم وصفحاتهن بمواقع التواصل الإجتماعي، وقد رأيت كتبا قرب وسادتي ، كانت رواية الغثيان La Nausée بالفرنسية لـ “سارتر”، وجزءاً خامسا من “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى” ، تناول فيه المؤلف المؤرخ المغربي البارز أبو العباس احمد بن خالد الناصري تاريخ الدولة العلوية، منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، قبيل وفاته ببعض سنين، فإستغربتُ ما الذي يجمع بين هذين الرجلين على وسادة واحدة، فيلسوف وجودي ، روائى مشاكس ومسرحى جامح فرنسي، وفقيه مالكي مغربي متصوف، كان رجل إدارة من الطراز الرفيع، وكان قلبه معلقا بالمساجد والزوايا كما المرافئ المغربية، ..
فكم كان الناصري مؤرخا، وكم كان مسكونا بعشق المراسي والسفن بحكم إحدى وظائفه، قبل أن تتناسل أمامي مكالمات الهاتف، ورناته التي لا تتوقف، التي أخدتني ككل يوم إلى متاعب لاتنتهي، وإلى لقاءات وتنقلات، عادة ما تحولني إلى طيف لــ “دون كيشوت” يصارع الطواحين يظنها الأعداء، وقد كانت بجانب هذين الكتابين صور لفنانين شعبيين، ممن ألتقيهم في أكثر من مناسبة، ومن غير مناسبة في أزقة مراكش، بحاراتها وأسواقها ودروبها، حيث طالما كانت تدهشني طرائق أهازيجهم وأنشوداتهم وتلك “الطْقِيطيقـَـات” و”المواويل” التي يعملون دوما على تطويرها وتهذيب حواشيها وتنميق كلماتها بالمستجدات المجتمعية، فتتفتق جمالا فطريا وصدقا تلقائيا …
:
:
قال لي صديق في منتصف النهار، أطرق كل الأبواب ، فأجدها مغلقة، فما أتعسني ويا لسوء حظي يا صديقي يا الـقـنور، قلتُ للصديق قد لا يمكن أن تكون كل الابواب مغلقة ، فلربما تدق على الحيطان وتظن أنها الأبواب، فكل الأبواب صُنعت لتُفتح .. فـَـلِمَ لا تجرب مرة ومرة ومرات، أخبرته أني كتبت عن “دون كيشوت” كيف كان يحارب الطواحن ويتوعد السواقي ويطعن السنابل ، فيظـُـنها الأعداء” فثمة الكثيرون من الأشخاص ممن يضعون السماعات الموسيقية على الآذان ، والنظارات الشمسية على العيون ، ويلصقون الهواتف النقالة بالكفوف ، وعلكات “الشوينــﯖــوم” في الفم ، ويلتقمون الوجبات السريعة المغلـَّـفة في أوراق “الأليمنيوم” ، ومع ذلكــ يشتكون من الوحدة، ويأسفون على الزمن الجميل الذي كان وإنقضى ، ومهما طرقتُ على أبوابهم لا يسمعون .
:
:
مرت سيارة إسعاف مُتسارعة أمامي على الطريق، كان إصفرار لونها الفاقع، يزيد من مأساويتها تتوحد مع تراتبية أبواقها الصاخبة، وقد ضجر سائقها من إزدحام السيارات أمامه، إذ تعيق طريقه، فقد صنعت المدن سيارات الإسعاف، ثم وضعت امامها مركبات مزدحمة لتعوق حركتها ، ومع ذلكـ يندهش الجميع لصراخاتها عندما تلتمس طريقها إلى المستشفيات ، فغريب أمر المدن، وقد وقف رجل منهكـ القوى يلعن هذه السيارة ويلعن اليوم الذي صنعت فيه هذه السيارة المتسارعة،…
قطعت الطريق، وأنا أنظر لصبي وقد بدت عليه علامات التسكع والإرهاق، قفز الصبي إلى وراء حائط بيت مهجور .
خطر ببالي ، كيف يتكلم بعض الناس تمكين الطفولة من تنوع المخميات، دون أن يتنالوا أطفال “الديليون” و “السيليسيون” ، ومن غير أن ينتبهوا للطفولة الواقعة في نفس المأساة.
وقد فكرت مليا وأن أنظر إلى بعض أشجار النخيل، وقد غدوت من عمل ومن مكالمات هاتفية فائرة، فكلما قررت ان اواجه بعض الامور الجميلة ، تباغثني تدفقات العمل ، فتعطيني تلكـ الأمور ظهرها غاضبة.
وقفتُ لدى بقال، وقد عرض على واجهة دكانه الزجاجية بعض الحلوى وشيئا من أنواع الشوكولاطه، وقد خطر في نفسي أن أشتري شيئا منها لأم الغيث ، قلت في قرارة ضميري على جميع اولياء الامور من آباء وامهات ومربيات التوقف عن فض غلاف الشيكولاته للاطفال ، لأن الفرح والمتعة لا تنحصران في طعم الشيكولاتة فقط ، وإنما في الذهاب إليها بتلقائية الأصابع والترقب الذي يسبق اكتشاف المذاق.
:
وعلى كل حال، فقد أويتُ إلى فراشي عائدا في منتصف الليل، إذ ظهر كل شيء هادئا،وبسيطا في المنزل، وإذا بهاتفي يرن، وإذا بالزميل يحي يدعوني لتناول العشاء معه، فقد نسي بدوره يوم عيد ميلاده،ولم يتذكره إلا بعد دقائق من الساعات الأولى من صبيحة اليوم الموالي ، من جراء متاعبه التي لا تنتهي، وأسفاره في الجبل ، فأراد أن أشاركه فرحة الذكرى، وطعم العشاء المتأخر، وألح في ذلكـ إلحاحا جميلا وكريما، وقد طفق يصف لي قرب مكان عشاء الحفل، وأنه لا يبعد عن فراشي ..
قال أيت يحي ، أن المكان قريب وأنه قاب قوسين من منزلي ، وأنه ليس سوى خطوات مني ،….
قال لي “منزلكـ ، وباب تاغزوت، ثم روض العروس والرميلة، وها أنت عندي” فشمرتُ على حذاء الجِد وخرجتُ .

:
وأمام بوابة المطعم الذي دعيتُ له في حي الجبل الأخضر، من طرف زميلي المصور الصحافي محمد أيت يحي،بادرني حارس بالسؤال فيما إذا كنت أبتغي شيئا، قبل أن يستدركـَ حارس آخر تدخله السريع، مهللا ومرحبا بي، أن “البركات قد زارته ليلا ” فقال “يا مرحبا، وبدأنا العشاء والحديث .شتغل، وقد اتخذت لها اسماً يناسب كثيرا ممارساتها الدائمة.
ولأن للبحث الإعلامي حرمته وقواعده،فقد بقيت الفكرة مجرد موضوع للدعابة، وبخاصة أن “الشوافة” كانت من قبلُ موظفة بإحدى الشركات الكبرى ، وهو ما أوقف موضوع بحثي، لأنه سيتطلب مني ربط أسرار الملفات بلواعج النفوس وهموم الأشجان، ويدفعني إلى الرقص فوق ثقوب المزامير، فتتبعني بذلكـ الموسيقى عوض أن أتبعها .
:
مررتُ في طريقي إلى دعوة الزميل أيت يحي بحارس ليلي في حي “دار الباشا”، كان صوت الزميلة فاطمة أقروط ينبعث من مذياعه، جميلا وموظبا، وهي تعلن برامج إذاعة مراكش على مدار الأربعة والعشرين ساعة ، سمعتها تعلن برنامجين للزميلين حسن بنمنصور وأنس الملحوني، وفي الطريق رأيت رجلا وقد أسرع في رفع زجاج سيارته، إبتسمتُ في قرارة نفسي، وتطلعت إلى ما قد يكون قد رآه من هيئتي، فلعله إعتقد أنيَّ لصٌ أو قاطعُ طريق، ففعل ما فعله 🤣😃😄 .
:
وأمام بوابة المطعم الذي دعيتُ له في حي الجبل الأخضر، من طرف زميلي المصور الصحافي محمد أيت يحي،بادرني حارس بالسؤال فيما إذا كنت أبتغي شيئا، قبل أن يستدركـَ حارس آخر تدخله السريع، مهللا ومرحبا بي، أن “البركات قد زارته ليلا ” فقال “يا مرحبا”، وبدأنا العشاء والحديث ….

Related posts