أصلح بواجير الجاز .. مهنة طلعت ع المعاش من [ زَمِنَ الْفَنُّ الْجَمِيلُ ]

 
 
تقرير – محمد مأمون & خلود طباجة
 
كثيراً ما سمعنا عبارة “فلان طلع ع المعاش” وربما ذهبنا نبارك ونهنيء ونتمنى له التوفيق وبداية حياة جديدة ،، لكن المؤسف في هذه الجولة أن نجد مهنة عم “فلان” هي اللي “طلعت ع المعاش” رغم تمسكه بها وإصراره على ممارستها ، ورغم كل متغيرات العصر الذي نعيشه .
 
بين ربوع إحدى المناطق الشعبية بمدينة المحلة كانت جولتنا مع عم ” محمد الديب ” أخر سمكري بواجير بالمعنى الحرفى للمهنة ، ذلك الشيخ الذي يجلس فوق منضدته الخشبية بدكانه العتيق وتحيطه أطلال ربما حملت معها ذكرياته طوال خمسون عاماً قضاها بين جدارنه .
 
بإبتسامة رقيقة بدأ عم “محمد” في سرد ذكرياته مع “باجور الجاز” ومهنته التي ورثها عن والده منذ الصغر وقت أن كان يمثل الباجور عنصراً أساسياً من ملامح الحياة ، حيث كان الوسيلة الأساسية للطهى والتدفئة في زمن لم يعرف أنبوبة البوتجاز أو السخان الكهربائي ، وكانت الزبائن تأتي من مختلف ربوع الحي على مدار اليوم .
 
ويؤكد عم محمد أن مهنته لم تكن قاصرة على إصلاح الباجور ، حيث تميز هذا الزمن بالعديد من الأشياء التي إختفت في الوقت الحالي مثل الطشت والإبريق والكنكة والشيشة وكلها كانت من المصنوعات النحاسية التي لا يمتلك مهارة إصلاحها سوى سمكري البواجير ، إلا أن تطور العصر ألقى بتلك الأشياء في طى النسيان فإختفت بعضها تماماً وإستبدل بعضها بمصنوعات زجاجية مثل الشيشة .
 
وعن العائد المادي الذي كانت تدره المهنة ، يرى عم محمد أن دخل المواطن كان بسيطاً ، وأجر مهنته قليلاً ولكنه كان كافياً لكثرة الشغل ومرونة الحياة ، في حين زادت الدخول حالياً لكن بعد أن قل الطلب على مهنته التي يصارع معها من أجل البقاء .
 
ويصر عم محمد أن يستكمل رسالته في الحياة مع هذه المهنة التي يهواها والتي ربما لم يتعلم سواها طيلة حياته ، وأنه لا يتمنى حالياً سوى أن يختم حياته بآداء فريضة الحج لبيت الله الحرام .
 
ونستكمل جولتنا للبحث من جديد عن سمكري بواجير في منطقة أخرى ، مُهمة لم تكن سهلة على الإطلاق حتى وصلنا لعم “إمام البحيري” سمكري بدون دُكان يفترش زاوية بمنطقة مساكن شعبية بالمحلة بعد أن أجبرته ضغوط الحياة على ترك محله الذي أصبح يشكل عبئاً مالياً لا يستطيع تحمله ، وبعد أن إستوطن الغاز الطبيعي السواد الأعظم من البيوت ، ولم تسعفه مهنته على مواكبة التطور الذي داهمها ليجد نفسه في هذه الزاوية يومياً في إنتظار الفرج ، والذي يقسو على عم “إمام” بالأيام قبل أن يزوره من وقت لأخر .
 
يروي عم “إمام” ذكرياته مع المهنة التي لم تخذله طوال نصف قرن مضى قدر ما خذلته الأن ، وكيف بدأها على الرغم من أنه لم يرثها عن والده الذي كان يعمل سماكاً ، ففي زمنه كان من يفشل بالدراسة يتجه فوراً للعمل الحرفي وهو ما قاده لمهنة السمكري الذي نجح من خلالها في تربية وتعليم وتزويج أبناؤه قبل أن يلحق بمهنته في الطلوع على المعاش .
 
ويستند “إمام” في أسباب إندثار المهنة على ظهور الغاز الطبيعي فقط ، حيث إعتبر أن أنبوبة البوتجاز لم تستطيع القضاء على الباجور قدر ما قضت عليه وصلات الغاز الطبيعي ، ففراغ أنبوبة البوتجاز كان يمثل هاجساً في كل بيت ويجعل للباجور دائماً مكانة مميزة ودور بطولي في إنقاذ بطون أفراد الأسرة في أحلج اللحظات .
 
وينهى إمام حديثه عن المهنة وعدم تغييره للنشاط بأن مضى العمر والحالة الصحية التي أصبح عليها وقفت حائلاً دون ذلك ، في الوقت الذي سارع فيه غيره ممن عاصروه بالمهنة على مواكبة التطور وترك مهنة السمكري ، ومنهم من إخترق عالم التجارة وتحول لبيع قطع غيار الباجور والبوتجاز .
 
مهنة سمكري البواجير واحدة من مهن كادت أن تلحق بزميلاتها ممن سبقوها في الطلوع على المعاش كـ “السقا” و “المنادي” و “حلاق الصحة” تلك المهن التي أرثت حياة المصريين في المناطق الشعبية ونسجت فيه تاريخ لن يُنسى من .. زَمِنَ الْفَنُّ الْجَمِيلُ .
 

Related posts